الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
/ وعلى هذا الأصل تتفرع المسائل. فالجائحة هي الآفات السماوية التي لا يمكن معها تضمين أحد مثل: الريح والبرد والحر والمطر، والجليد والصاعقة، ونحو ذلك، كما لو تلف بها غير هذا المبيع. فإن أتلفها آدمي يمكن تضمينه، أو غصبها غاصب، فقال أصحابنا كالقاضي وغيره: هي بمنزلة إتلاف المبيع قبل التمكن من قبضه، يخير المشتري بين الإمضاء والفسخ كما تقدم. وإن أتلفها من الآدميين من لا يمكن ضمانه كالجيوش التي تنهبها، واللصوص الذين يخربونها، فخرجوا فيه وجهين: أحدهما: ليست جائحة، لأنها من فعل آدمي. والثاني: وهو قياس أصول المذهب أنها جائحة، وهو مذهب مالك. كما قلنا مثل ذلك في منافع الإجارة؛ لأن المأخذ إنما هو إمكان الضمان؛ ولهذا لو كان المتلف جيوش الكفار، أو أهل الحرب، كان ذلك كالآفة السماوية. والجيوش واللصوص وإن فعلوا ذلك ظلما، ولم يمكن تضمينهم: فهم بمنزلة البرد في المعني. ولو كانت الجائحة قد عيبته ولم تتلفه، فهو كالعيب /الحادث قبل التمكن من القبض، وهو كالعيب القديم يملك به، أو الأرش حيث يقول به. وإذا كان ذلك بمنزلة تلف المبيع قبل التمكن من قبضه، فلا فرق بين قليل الجائحة وكثيرها في أشهر الروايتين. وهي قول الشافعي، وأبي عبيدة وغيرهما من فقهاء الحديث؛ لعموم الحديث والمعني. والثانية: أن الجائحة الثلث فما زاد، كقول مالك؛ لأنه لابد من تلف بعض الثمر في العادة، فيحتاج إلى تقدير الجائحة، فتقدر بالثلث، كما قدرت به الوصية والنذر ومواضع في الجراح وغير ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الثلث، والثلث كثير). وعلى الرواية الأولي يقال: الفرق مرجعه إلى العادة، فما جرت العادة بسقوطه، أو أكل الطير أو غيره له، فهو مشروط في العقد،والجائحة مازاد على ذلك؛ وإذا زادت على العادة وضعت جميعها، وكذلك إذا زادت على الثلث، وقلنا بتقديره، فإنها توضع جميعها. وهل الثلث مقدر بثلث القيمة،أو ثلث المقدار؟ على وجهين.وهما قولان في مذهب مالك. / والجوائح موضوعة في جميع الشجر عند أصحابنا، وهو مذهب مالك. وقد نقل عن أحمد أنه قال: إنما الجوائح في النخل، وقد تأوله القاضي على أنه أراد إخراج الزرع والخضر من ذلك، ويمكن أنه أراد أن لفظ الجوائح الذي جاء به الحديث هو في النخل، وباقي الشجر ثابتة بالقياس، لا بالنص؛ فإن شجر المدينة كان النخل. وأما الجوائح فيما يبتاع من الزرع ففيه وجهان ذكرهما القاضي وغيره. أحدهما: لا جائحة فيها. قال القاضي: وهذا أشبه؛ لأنها لا تباع إلا بعد تكامل صلاحها وأوان جذاذها، بخلاف الثمرة، فإن بيعها جائز بمجرد بدو الصلاح، ومدته تطول. وعلى هذا الوجه حمل القاضي كلام أحمد: إنما الجوائح في النخل ـ يعني لما كان ببغداد ـ وقد سئل عن جوائح الزرع فقال: إنما الجوائح في النخل. وكذلك مذهب مالك أنه لا جائحة في الثمرة إذا يبست، والزرع لا جائحة فيه كذلك؛ لأنه إنما يباع يابسًا، وهذا قول من لا يضع الجوائح في الثمر. كأبي حنيفة والشافعي في القول الجديد المعلق. والوجه الثاني: فيها الجائحة كالثمرة. وهذا هو الذي قطع به /غير واحد من أصحابنا؛ كأبي محمد، لم يذكروا فيه خلافًا، ولم يفرقوا بين ذلك وبين الثمرة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهي عن بيع العنب حتي يسود، وبيع الحب حتي يشتد. فبيع هذا بعد اسوداده كبيع هذا بعد اشتداده. ومن حين يشتد إلى حين يستحصد مدة قد تصيبه فيها جائحة. ومن أصحابنا من قال: ما تكرر حمله كالقثاء، والخيار، ونحوهما من الخضر والبقول، وغيرهما فهو كالشجر، وثمره كثمره في ذلك؛ لصحة بيع أصوله، صغارًا كانت أو كبارًا، مثمرة أو غير مثمرة.
هذا إذا تلفت قبل كمال صلاحها ووقت جذاذها. فإن تركها إلى حين الجذاذ فتلفت حينئذ، فكذلك عند أصحابنا. ونقل عن مالك أنها تكون من ضمان المشتري. وللشافعي قولان؛ وذلك لأنه لم يبق على البائع شيء من التسليم، والمشتري لم يحصل منه تفريط، لا خاص ولا عام، فإن تأخيرها إلى هذا الحين من موجب العقد. فأصحابنا راعوا عدم تمكن المشتري، وعدم تفريطه، والمنازع راعي تسليم البائع وتمكينه. وأما إن تركها حتي تجاوز وقت نقلها وتكامل بلوغها، ثم تلفت: /ففيها لأصحابنا ثلاثة أوجه: أحدها: أن تكون من ضمان البائع أيضًا؛ لعدم كمال قبض المشتري، وهو الذي قطع به القاضي في المجرد، وابن عقيل، وأكثر الأصحاب، وهو مذهب مالك والشافعي، لكن القاضي في المجرد علله بما إذا لم يكن له عذر؛ دون ما إذا عاقه مرض أو مانع. وأما غيره فذهبوا إلى الوجه الثالث، وهو عدم اعتبار إمكان الرفع والجد. قال ابن عقيل: هذا هو الذي يقتضيه مذهبنا. وهو كما قال؛ فإن هذه الثمرة بمنزلة المنفعة في الإجارة. ولو حال بين المستأجر وبينها حائل يخصه، مثل مرضه ونحوه لم تسقط عنه الأجرة؛ بخلاف العام، فإنه يسقط أجرة ما ذهب به من المنفعة.
هذا إذا اشترى الثمرة والزرع، فإن اشتري الأصل بعد ظهور الثمر أو قبل التأبير، واشترط الثمر فلا جائحة في ذلك عند أصحابنا ومالك وغيرهما. ولذلك احترز الخرقي من هذه الصورة، فقال: وإذا اشتري الثمرة دون الأصل، فتلفت بجائحة من السماء، رجع بها على البائع؛ وذلك لأنه هنا حصل القبض الكامل بقبض الأصل؛ ولهذا لا يجب /على البائع سقي ولا مؤونة أصلا؛ فإن المبيع عقار، والعقار قبض بالتخلية، والثمر دخل ضمنًا وتبعا، فإذا جاز بيعه قبل صلاحه، جاز هنا بيعا. ولو بيع مقصودًا، لم يجز بيعه قبل صلاحه.
هذا الكلام في البيع المحض للثمر والزرع. وأما الضمان والقبالة، وهو أن يضمن الأرض والشجر جميعا بعوض واحد لمن يقوم على الشجر والأرض، ويكون الثمر والزرع له: فهذا العقد فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه باطل، وهذا القول منصوص عن أحمد، وهو قول أبي حنيفة والشافعي؛ بناء على أنه في ذلك تبعًا للثمر قبل بدو صلاحه. والثاني: يجوز إذا كانت الأرض هي المقصودة، والشجر تابع لها؛ بأن يكون شجرا قليلا. وهذا قول مالك. والثالث: جواز ذلك مطلقا، قاله طائفة من أصحابنا وغيرهم، منهم ابن عقيل. وهذا هو الصواب؛ لأن إجارة الأرض جائزة، ولا يمكن ذلك إلا بإدخال الشجر في العقد، فجاز للحاجة تبعا، وإن كان في ذلك بيع ثمر قبل بدو صلاحه إذا بيع مع الأصل؛ ولأن ذلك ليس ببيع /للثمر؛ لأن الضامن هنا هو الذي يسقي الشجر، ويزرع الأرض، فهو في الشجر بمنزلة المستأجر في الأرض. والمبتاع للثمر بمنزلة المشتري للزرع، فلا يصح إلحاق أحدهما بالآخر؛ ولأن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ قبل حديقة أسيد بن الحضير ثلاث سنين بعد موته، وأخذ القبالة فوفي بها دينه. رواه حرب الكرماني في مسائله، وأبو زرعة الدمشقي في تاريخه بإسناد صحيح. ولأن عمر بن الخطاب ضرب الخراج باتفاق الصحابة على الأرض التي فيها شجر نخل وعنب، وجعل للأرض قسطا، وللشجر قسطا. وذلك إجارة عند أكثر من ينازعنا في هذه المسألة، وهو ضمان لأرض وشجر. وقد بسطت الكلام في هذه المسألة في [القواعد الفقهية] . والغرض هنا: [مسألة وضع الجوائح] ، فإذا قلنا: لا يصح هذا العقد فكيف الطريق في المعاملة؟ قيل: إنه يؤجر الأرض، ويساقي على الشجر فيها، وهذا قول طائفة من أصحاب الشافعي، وغيرهم. وهو قول القاضي أبي يعلى في كتاب [إبطال الحيل] والمنصوص عن أحمد إبطال هذه الحيلة، وهو الصواب، كما قررنا في [كتاب إبطال الحيل] ، فساد ذلك من وجوه كثيرة: منها: أنه إن جعل أحد العقدين شرطا في الآخر، لم يصح، وإن عقدهما عقدين مفردين، لم تجز له هذه المحاباة في مال موليه؛ كالوقف /ومال اليتيم، ونحوهما، ولا مال موكله الغائب ونحوه. ومنها: أنه قد علم أن إعطاء العوض العظيم من الضامن لم يكن لأجل منفعة الأرض التي قد لا تساوي عشر العوض، وإنما هو لأجل الثمرة، وكذلك المالك قد علم أنه لم يشترط لنفسه من الثمرة شيئًا، وهو لا يطالب بذلك القدر النزر الذي لا قيمة له، وإنما جعل الثمرة جميعها للضامن. وفي الجملة: فهذا العقد إما أن يصح على الوجه المعروف بين الناس، وإما ألا يصح بحال، لكن الثاني فيه فساد عظيم لا تحتمله الشريعة، فتعين الأول. وأما هذه الحيلة فيعرف بطلانا بأدني نظر. فعلى هذا إذا حصلت جائحة في هذا الضمان، فإن قلنا: العقد فاسد، فيكون قد اشتري ثمرة قبل بدو صلاحها، وقد خلي بينه وبينها، وتلفت قبل كمال الصلاح، أو لم تطلع. وقد تقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما نهي عن بيع الثمر قبل بدو صلاحه لقوله: (أرأيت إن منع الله الثمرة) أو قال: (أرأيت إن لم يثمرها الله، فبم يأخذ أحدكم مال أخيه بغير حق؟)، وإذا أصابتها جائحة منعت كمال صلاحها، وأفسدتها: فقد منع الله الثمرة، فيجب ألا يأخذ مال أخيه بغير حق. ومن قال: إن الثمرة تضمن بالقبض في العقد الصحيح، فيلزمه أن /يقول: إنها تضمن بالقبض في العقد الفاسد، فإذا تلفت هنا تكون من ضمانه؛ لأن المقبوض بالعقد الفاسد مضمون على المشتري؛ لكن يجب أن يضمنوا قيمتها حين تلفت، وقد يكون تلفها في أوئل ظهورها وقيمتها قليلة، وقد يكون بعد بدو صلاحها وهذا مما يلزمهم فيه إلزاما قويا، وهو أنه إذا اشتراها بعد بدو صلاحها مستحقة التبقية، فكثير من أجزائها وصفاتها لم يخلق بعد، فإذا تلفت بجائحة ولم نضع عنه الجائحة، فيجب ألا يضمن إلا ما قبضه دون ما لم يخلق بعد ولم يقبضه، فيجب أن ينظر قيمتها حين أصابتها الجائحة، فينسب ذلك إلى قيمتها، وقت بدو الصلاح، فيضمن من الثمن بقدر ذلك، بمنزلة من قبض بعض المبيع وبعض منفعة الإجارة دون بعض، فإنه يضمن ما قبضه دون ما لم يقبضه بعد. فإما أن يجعل الأجزاء والصفات المعدومة التي لم تخلق بعد من ضمانه، وهي لم توجد، فهذا خلاف أصول الإسلام، وهو ظلم بين لا وجه له. ومن قاله، فعليه أن يقول: إنه إذا اشتري الثمرة قبل بدو صلاحها، وقبض أصلها، ولم يخلق منها شيء لآفة منعت الطلع، أن يضمن الثمن جميعه للبائع، وهذا خلاف النص والإجماع. ويلزمه أن يقول: إنه لو بدا صلاحها في العقد الفاسد،وتلفت بآفة سماوية أن يضمن جميع الثمرة،كما يضمنها عنده بالعقد الصحيح، فإن ما ضمن بالقبض في أحدهما،/ ضمن بالقبض في الآخر، إلا أنه يضمن هنا بالمسمي وهناك بالبدل. وهذه حجة قوية لا محيص عنها، فإنه إن جعل ما لم يخلق من الأجزاء مقبوضا، لزمه أن يضمن في العقد الفاسد، وإن جعله غير مقبوض، لزمه ألا يضمن في العقد الصحيح. والأول باطل قطعًا، مخالف للنص والإجماع. ومن قال من الكوفيين: إن المعقود عليه هو ما وجد فقط، وهو المقبوض، فقد سلم من هذا التناقض؛ لكن لزمه مخالفة النصوص المستفيضة، ومخالفة عمل المسلمين قديما وحديثا، ومخالفة الأصول المستقرة، ومخالفة العدل الذي به تقوم السماء والأرض، كما هو مقرر في موضعه. وهذا كالحجج القاطعة على وجوب وضع الجوائح في العقود الصحيحة والفاسدة، ووضعها في العقد الفاسد أقوي. وأما إذا جعلنا الضمان صحيحا، فإنا نقول بوضع الجوائح فيه. كما نقوله في الشراء، وأولي أيضا. وأما من يصحح هذه الحيلة ويري العقد صحيحا، فقد يقول: أنت مساق، والمساقاة ليس فيها جائحة، فيبني هذا على وضع الجوائح في المساقاة / وأما الجوائح في الإجارة، فنقول: لا نزاع بين الأئمة أن منافع الإجارة إذا تعطلت قبل التمكن من استيفائها سقطت الأجرة، لم يتنازعوا في ذلك كما تنازعوا في تلف الثمرة المبيعة؛ لأن الثمرة هناك قد يقولون: قبضت بالتخلية، وأما المنفعة التي لم توجد فلم تقبض بحال. ولهذا نقل الإجماع على أن العين المؤجرة إذا تلفت قبل قبضها، بطلت الإجارة، وكذلك إذا تلفت عقب قبضها وقبل التمكن من الانتفاع؛ إلا خلافا شاذًا حكوه عن أبي ثور؛ لأن المعقود عليه تلف قبل قبضه، فأشبه تلف المبيع بعد القبض، جعلا لقبض العين قبضًا للمنفعة. وقد يقال: هو قياس قول من يقول بعدم وضع الجوائح؛ لكن يقولون: المعقود عليه هنا المنافع، وهي معدومة لم تقبض؛ وإنما قبضها باستيفائها، أو التمكن من استيفائها؛ وإنما جعل قبض العين قبضًا لها في انتقال الملك، والاستحقاق، وجواز التصرف. فإذا تلفت العين، فقد تلفت قبل التمكن من استيفاء المنفعة، فتبطل الإجارة. وهـذا يلزمهم مثله في الثمرة باعتبار ما لم يوجد من أجزائها./ والأصول في الثمرة كالعين في المنفعة، وعدم التمكن من استيفاء المقصود بالعقد موجود في الموضعين. فأبو ثور طـرد القياس الفاسد، كما طرد الجمهور القياس الصحيح في وضع الجوائح وإبطال الإجارة. وإن تلفت العين في أثناء المدة، انفسخت الإجارة فيما بقي من المدة، دون ما مضي. وفي انفساخها في الماضي خلاف شاذ. وتعطل بعض الأعيان المستأجرة يسقط نصيبه من الأجرة، كتلف بعض الأعيان المبيعة؛ مثل موت بعض الدواب المستأجرة، وانهدام بعض الدور. وتعطل المنفعة يكون بوجهين: أحدهما: تلف العين كموت العبد، والدابة المستأجرة. والثاني: زوال نفعها بأن يحدث عليها ما يمنع نفعها، كدار انهدمت وأرض للزرع غرقت، أو انقطع ماؤها. فهذه إذا لم يبق فيها نفع فهي كالتالفة سواء، لا فرق بينهما عند أحد من العلماء. وإن زال بعض نفعها المقصود، وبقي بعضه، مثل أن يمكنه زرع الأرض بغير ماء ويكون زرعا ناقصا، وكان الماء ينحسر عن الأرض التي غرقت على وجه يمنع بعض الزراعة، أو نشوء الزرع: ملك فسخ الإجارة؛ فإن ذلك كالعيب في البيع ـ ولم تبطل به الإجارة. وفي إمساكه بالأرش قولان في المذهب. وإن تعطل نفعها بعض المدة، لزمه من الأجرة بقدر ما /انتفع به كما قال الخرقي. فإن جاء أمر غالب يحجر المستأجر عن منفعة ما وقع عليه العقد لزمه من الأجرة بمقدار مدة انتفاعه. وإذا بقي من المنفعة ما ليس هو المقصود بالعقد، مثل أن ينقطع الماء عن الأرض المستأجرة للزرع، ويمكن الانتفاع بها بوضع حطب ونصب خيمة، وكذلك الدار المتهدمة يمكن نصب خيمة فيها، والأرض التي غرقت يمكن صيد السمك منها: فهل تبطل الإجارة هنا؟ أو يكون هذا كالنقص الذي يملك به الفسخ؟ على وجهين: أحدهما: تبطل. وهو قول أكثر العلماء؛ كأبي حنيفة ومالك والشافعي في صورة الهدم؛ لأن هذه المنفعة لما لم تكن هي المقصودة بالعقد كان وجودها وعدمها سواء. والثاني: يملك الفسخ. وهو نص الشافعي في صورة انقطاع الماء. وقد اختاره القاضي وابن عقيل في بعض المواضع. والأول اختاره غيرهما من الأصحاب. / إذا تبين هذا فإذا استأجر أرض للزرع، فقد ينقطع الماء عنها، أو تغرق قبل الزرع. وقد ينقطع الماء عنها أو تغرق أو يصيب الزرع آفة بعد زرعها، وقبل وقت الحصاد، فما الحكم في هذه المسائل؟ المنصوص عن أحمد والأصحاب وغيرهم في انقطاع الماء: أن انقطاعه بعد الزرع كانقطاعه قبله، إن حصل معه بعض المنفعة، وجب من الأجرة بقسط ذلك وإن تعطلت المنفعة كلها، فلا أجرة. قال أحمد بن القاسم: سألت أبا عبد الله عن رجل اكتري أرضًا يزرعها وانقطع الماء عنها قبل تمام الوقت، قال: يحط عنه من الأجرة بقدر ما لم ينتفع بها، أو بقدر انقطاع الماء عنها. فصرح بأن انقطاع الماء بعد الزرع يوجب أن يحط عنه من الأجرة بقدر ما نقص من المنفعة، وعلى هذا أصحابنا من غير خلاف أعلمه. وذكر القاضي وغيره أنه إذا اكتري أرضا للزرع فزرعها. ثم أصابها غرق آفة من غير الشرب، فلم ينبت، لزمه الكراء، وذكر أن أحمد نص على ذلك، وأنها لو غرقت في وقت زرعها فلم يمكنه الزراعة /لم تلزمه الأجرة لتعذر التسليم، وكذلك ذكر صاحب التفريع، مذهب مالك في الصورتين. فالقاضي يفرق بين الصورتين، كالنصين المفترقين: يفرق بين انقطاع الماء، وبين حدوث الغرق وغيره من الآفات، بأن انقطاع الماء فوات نفس المنفعة المعقود عليها؛ لأن المعقود عليه أرض لها ماء، فانقطاع الماء المعتاد بمنزلة عدم التسليم المستحق، كموت الدابة. والأجرة إنما تستحق بدوام التسليم المستحق. وأما الغرق وغيره من الآفات التي تفسد الزرع، فهو إتلاف لعين ملك المستأجر، فهو كما لو استأجر دارًا فتلف له فيها ثوب. وحقيقة الفرق: أنه مع انقطاع الماء لم تسلم المنفعة، ومع تلف الزرع تسلم المنفعة، لكن حصل ما أتلف ملك المستأجر، فهو كما لو تلف بعد الحصاد. وسوي طائفة من أصحابنا ـ كالشيخ أبي محمد ـ في الإجارة بين انقطاع الماء وحدوث الغرق الذي يمنع الزرع، أو يضر الزرع؛ بأن ذلك إن عطل المنفعة أسقط الأجرة، وإن أمكن الانتفاع معه على تعب من القصور: مثل أن يكون الغرق يمنع بعض الزراعة، أو يسوء الزرع ثبت به الفسخ، وإن كان ذلك لا يضر كغرق بماء ينحسر في قرب من الزمان لا يمنع الزرع ولا يضره، وانقطاع الماء عنها إذا ساق المؤجر اليها الماء من مكان آخر، و كان انقطاعه في زمن لا يحتاج اليه فيه لم /يكن له الفسخ. وعلى هذه الطريقة ينقل جواب أحمد من مسألة انقطاع الماء إلى مسألة غرق الزرع، ومن مسألة غرق الزرع إلى مسألة انقطاع الماء؛ لأن المعني في الجميع واحد. وذلك أن غرق الزرع الحادث قبل الزرع إذا منع من الزرع فالحادث بعده يمنع من نبات الزرع، كما أن انقطاع الماء يمنع من نبات الزرع، والمعقود عليه المقصود بالعقد هو التمكن من الانتفاع إلى حين الحصاد ليس إلقاء البذر هو جميع المعقود عليه، ولو كان ذلك وحده هو المعقود عليه لوجب إذا انقطع الماء بعد ذلك ألا يملك الفسخ. ولا يسقط شيء من الأجرة، ولم يقولوا به، ولا يجوز أن يقال به؛ لأنا نعلم يقينا أن مقصود المستأجر الذي عقد عليه العقد هو تمكنه من الانتفاع بتربة الأرض، وهوائها، ومائها، وشمسها إلى أن يكمل صلاح زرعه، فمتي زالت منفعة التراب أو الماء أو الهواء أو الشمس لم ينبت الزرع، ولم يستوف المنفعة المقصودة بالعقد، كما لو استأجر دارًا للسكني فتعذرت السكني بها لبعض الأسباب، مثل خراب حائط، أو انقطاع ماء، أو انهدام سقف، ونحو ذلك. ولا خلاف بين الأمة أن تعطل المنفعة بأمر سماوي يوجب سقوط الأجرة، أو نقصها، أو الفسخ، وإن لم يكن للمستأجر فيه صنع كموت الدابة. وانهدام الدار، وانقطاع ماء السماء، فكذلك حدوث الغرق، /وغيره من الآفات المانعة من كمال الانتفاع بالزرع. يوضح ذلك أن المقصود المعقود عليه ليس هو مجرد فعل المستأجر الذي هو شق الأرض، وإلقاء البذر، حتي يقال: إذا تمكن من ذلك فقد تمكن من المنفعة جميعها، وإن حصل بعده ما يفسد الزرع، ويمنع الانتفاع به؛ لأن ذلك منتقض بانقطاع الماء بعد ذلك؛ ولأن المعقود عليه نفس منفعة الأرض، وانتفاعه بها ليس هو فعله؛ فإن فعله ليس هو منفعة له، ولا فيه انتفاع له، بل هو كلفة عليه وتعب ونصب يذهب فيه نفعه وماله. وهذا بخلاف سكني الدار، وركوب الدابة؛ فإن نفس السكني والركوب انتفاع، وبذلك قد نفعته العين المؤجرة. وأما شق الأرض فتعب ونصب، وإلقاء البذر إخراج مال، وإنما يفعل ذلك لما يرجوه من انتفاعه بالنفع الذي يخلقه الله في الأرض من الإنبات، كما قال تعالى: وليس لقائل أن يقول: إن إنبات الأرض ليس مقدورًا للمستأجر، ولا للمؤجر، والمعقود عليه يجب أن يكون مقدورًا عليه؛لأن هذا /خلاف إجماع المسلمين،بل وسائر العقلاء؛ فإن المعقود عليه المقصود بالإجارة لا يجب أن يكون من فعل أحد المتآجرين، بل يجوز أن يجعل غيرهما من حيوان أو جماد، وإن كانا عاجزين عن تلك المنفعة، مثل أن يؤجره عبدًا أو دابة، ونفعها هو باختيارها، ومثل أن يؤجره دارًا للسكني، ونفس الانتفاع بها هو بما خلق الله فيها من البقاء على تلك الصورة، ليس ذلك من فعل المؤجر. وكذلك جريان الماء من السماء ونبعه من الأرض هو داخل في المعقود عليه، وليس هو من مقدور أحدهما. وكذلك إذا آجره منقولا من سلاح أو كتب أو ثياب أو آلة صناعة أو غير ذلك؛ فإن المنفعة التي فيه ليست من فعل المؤجر. ونظائر ذلك كثيرة. فكذلك نفع الأرض الذي يخلقه الله فيها حتي ينبت الزرع بترابها ومائها وهوائها وشمسها، وإن كان أكثره لا يدخل في مقدور البشر ـ هو المعقود عليه المقصود بالعقد، فإذا تلف هذا المعقود عليه بطل العقد، وإن بطل بعضه كان كما لو تعطل منفعة غيره من الأعيان المؤجرة، بل بطلان الإجارة أو نقص الأجرة هنا أولي منه في جوائح الثمر. فإن الذين تنازعوا هناك من أصحاب أبي حنيفة والشافعي حجتهم أن الثمرة تلفت بعد القبض، فهو كما لو تلفت بعد الجذاذ، أو بعد /وقته. وأما هنا فقد اتفق الأئمة على أن المنفعة إنما تقبض ـ القبض المضمون على المستأجرـ شيئًا فشيئًا. ولهذا اتفقوا على أنه إذا تلفت العين، أو تعطلت المنفعة، أو بعضها في أثناء المدة سقطت الأجرة أو بعضها، أو ملك الفسخ. وإنما دخلت الشبهة على من دخلت عليه، حيث ظن أن المنفعة المقصودة بالعقد إثارة الأرض، والبذر فيها. وظن أن تلف الزرع بعد ذلك بغرق أو غيره بمنزلة تلف زرع الزارع بعد الحصاد، وبمنزلة تلف ثوب له في الدار المستأجرة. وهذه غفلة بينة لمن تدبر؛ ولهذا ينكر كل ذي فطرة سليمة ذلك، حتي من لم يمارس علم الفقه من الفلاحين، وشذاذ المتفقهة، ونحوهم. فإنهم يعلمون أن المعقود عليه هو انتفاع المستأجر منفعة العين المؤجرة؛ لا مجرد تعبه ونفقته الذي هو طريق إلى الانتفاع؛ فإن ذلك بمنزلة إسراجه وإلجامه واقتياده للفرس المستأجرة، وذلك طريق إلى الانتفاع بالركوب؛ لا أنه المعقود عليه، وإن كان داخلا فيه. وكذلك شد الأحمال، وعقد الحبال، ونحو ذلك هو طريق إلى الانتفاع بالحمل على الدابة، وهو داخل في المعقود عليه بطريق التبع. وإلا فالمعقود عليه المقصود هو نفس حمل الدابة للحمل، والركوب، وإن كان الحمل نفع الدابة والإسراج والشد فعل المستأجر، فكذلك هنا الشق والبذر، وإن كان فعله فهو داخل في الإجارة بطريق التبع؛ لأنه طريق إلى النفع المعقود عليه المقصود بالعقد، وهو /نفع الأرض بما يخلقه فيها من ماء وهواء وشمس. فمن ظن أن مجرد فعله هو المعقود عليه فقد غلط غلطًا بينا باليقين الذي لا شبهة فيه. وسبب غلطه كون فعله أمرًا محسوسًا لحركته، وكون نفع الأرض أمرا معقولا لعدم حركتها، فالذهن لما أدرك الحركة المحسوسة توهم أنها هي المعقود عليه. وهذا غلط منقوض بسائر صور الإجارة؛ فإن المعقود عليه هو نفع الأعيان المؤجرة، سواء كانت جامدة كالأرض والدار والثياب، أو متحركة كالأناسي والدواب، لا عمل الشخص المستأجر، وإنما عمل الشخص المستأجر طريق إلى استيفاء المنفعة. فتارة يقترن به الاستيفاء كالركوب واللبس، وتارة يتأخر عنه الاستيفاء كالبناء والغراس والزرع. فإن المعقود عليه حصول منفعة الأرض للبناء والغراس والزرع، لا مجرد عمل الباني الغارس الزارع الذي هو حق نفسه، كيف يكون حق نفسه هو الذي بذل الأجرة في مقابلته؟ وإنما يبذل الأجرة فيما يصل اليه من منفعة العين المؤجرة، لا فيما هو له من عمل نفسه؛ فإن شراء حقه بحقه محال. ومن تصور هذه قطع بما ذكرناه، ولم يبق عنده فيه شبهة إن شاء الله. وإذا كان المعقود عليه نفس منفعة العين من أول المدة إلى آخرها،/فأي وقت نقصت فيه هذه المنفعة؛ بنقص ماء وانقطاعه، أو بزيادته وتغريقه، أو حدوث جراد، أو برد، أو حر، أو ثلج، ونحو ذلك مما يكون خارجا عن العادة ومانعا من المنفعة المعتادة فإن ذلك يمنع المنفعة المستحقة المعقود عليها. فيجب أن يملك الفسخ، أو يسقط من الأجرة بقدر ما فات من المنفعة؛ كانقطاع الماء، وليس بين انقطاع الماء، وزيادته، وسائر الموانع فرق يصلح لافتراق الحكم.
إذا تبين ذلك فقد تقدم نص أحمد والخرقي وغيرهما على أنه عليه من الأجرة بقدر ما حصل له من المنفعة. وهذا نوعان: أحدهما: حصول المنفعة في بعض زمن الإجارة، أو بعض أجزاء العين المستأجرة، فهذا تقسط فيه الأجرة على قدر ذلك، ويجب بقسط ما حصل من المنفعة، وتكون الأجرة مقسومة على قدر قيمة الأمكنة، والأزمنة؛ فإن كلا منهما قد يكون متماثلا، وقد يكون مختلفا؛ بأن يكون بعض الأرض خيرًا من بعض وكري بعض فصول السنة أغلي من بعض. وقد صرح بذلك أصحابنا، وغيرهم. والثاني: نقص المنفعة في نفس المكان الواحد والزمان الواحد؛/ مثل أن يقل ماء السماء عن الوجه المعتاد، أو يحصل غرق ينقص الزرع، ونحو ذلك، فهنا لأصحابنا وجهان: أحدهما: أنه لا يملك إلا الفسخ. والثاني: وهو مقتضي المنصوص، وقياس المذهب: أنه يخير بين الفسخ وبين الأرش، كالبيع، بل هو في الإجارة أوكد؛ لأنه في البيع يمكنه الرد، والمطالبة بالثمن. وهنا لا يمكنه رد جميع المنفعة، فإنه لا يردها إلا متغيرة. فلو قيل هنا: إنه ليس له إلا المطالبة بالأرش؛ كما نقول على إحدى الروايتين: إن تعيب المبيع عند المشتري يمنع الرد بالعيب القديم، ويوجب الأرش لكان ذلك أوجه، وأقيس من قول من يقول: ليس له إذا تعقب المنفعة إلا الرد دون المطالبة بالأرش. فهذا قول ضعيف جدًا، بعيد عن أصول الشريعة، وقواعد المذهب، وخلاف ما نص عليه أحمد، وأئمة أصحابه؛ وإن كان القاضي قد يقوله في [المجرد] ويتبعه عليه ابن عقيل أو غيره، فالقاضي ـ رضي الله عنه ـ صنف [المجرد] قديما، بعد أن صنف [شرح المذهب] ، وقبل أن يحكم [التعليق] و [الجامع الكبير] ، وهو يأخذ المسائل التي وضعها الناس وأجابوا فيها على أصولهم، فيجيب فيها بما نص عليه أحمد /وأصحابه،وبما تقتضيه أصوله عنده، فربما حصل في بعض المسائل التي تتفرع وتتشعب ذهول للمفرع في بعض فروعها عن رعاية الأصول والنصوص في نحو ذلك. وعلى هذا، فإذا حصل من الضرر ـ كالبرد الشديد، والغرق، والهواء المؤذي، والجراد، والجليد، والفأر، ونحو ذلك ـ ما نقص المنفعة المقصودة المعتادة المستحقة بالعقد، فيصنع في ذلك كما يصنع في أرش المبيع المعيب؛ تنظر قيمة الأرض بدون تلك الآفة، وقيمتها مع تلك الآفة، وينسب النقص إلى القيمة الكاملة، ويحط من الأجرة المسماة بقدر النقص، كأن تكون أجرتها مع السلامة تساوي ألفا، ومع الآفة تساوي ثمانمائة، فالآفة قد نقصت خمس القيمة، فيحط خمس الأجرة المسماة، وكذلك في جائحة الثمر؛ ينظر كم نقصته الجائحة؟ هل نقصته ثلث قيمته، أو ربعها، أو خمسها؟ يحط عنه من الثمن بقدره. وكذلك لو تغير الثمر وعاب نظر كم نقصه ذلك العيب من قيمته؟ وحط من الثمن بنسبته. وأما ما قد يتوهمه بعض الناس أن جائحة الزرع في الأرض المستأجرة توضع من رب الأرض، أو يوضع من رب الأرض بعض الزرع، قياسًا على جائحة المبيع في الثمر والزرع فهذا غلط؛ فإن المشتري للثمر والزرع ملك بالعقد نفس الثمر والزرع. فإذا تلفت قبل التمكن من /القبض تلفت من ملك البائع. وأما المستأجر فإنما استحق بالعقد الانتفاع بالأرض. وأما الزرع نفسه فهو ملكه الحادث على ملكه، لم يملكه بعقد الإجارة، وإنما ملك بعقد الإجارة المنفعة التي تنبته إلى حين كمال صلاحه. فيجب الفرق بين جائحة الزرع والثمر المشتري، وبين الجائحة في منفعة الأرض المستأجرة المزروعـة؛ فإن هذا مَزَلَّة أقدام؛ وَمَضَلَّة أفهام. غلط فيها خلائق مـن الحكام والمقومين، والمجيحين، والملاك، والمستأجرين، حتي إن بعضهم يظنون أن جائحة الإجارة للأرض المزروعة بمنزلة جائحة الزرع المشتري. وبعض المتفقهة يظن أن الأرض المزروعة إذا حصل بها آفة منعت من كمال الزرع لم تنقص المنفعة، ولم يتلف شيء منها، وكلا الأمرين غلط لمن تدبر. ونظير الأرض المستأجرة للازدراع الأرض المستأجرة للغراس، والبناء؛ فإن المؤجر لا يضمن قيمة الغراس والبناء إذا تلف، ولكن لو حصلت آفة منعت كمال المنفعة المستحقة بالعقد، مثل أن يستولي عدو يمنع الانتفاع بالغراس والبناء، أو تحصل آفة من جراد أو آفة تفسد الشجر المغروس، أو حصل ريح بهدم الأبنية، ونحو ذلك، فهنا نقصت المنفعة المستحقة بالعقد، نظير نقص المنفعة في الأرض المزروعة. ولما كان كثير من الناس يتوهم أن المستأجر توضع عنه الجائحة في /نفس الزرع والبناء والغراس كالمشتري، نفي ذلك العلماء، ويشبه أن يكون هذا معني ما نص عليه أحمد، ونقله أصحابنا؛ كالقاضي، وأبي محمد، حيث قالوا ـ واللفظ لأبي محمد ـ: إذا استأجر أرضا فزرعها فتلف الزرع فلا شيء على المؤجر. نص عليه أحمد، ولا نعلم فيه خلافا؛ لأن المعقود عليه منافع الأرض، ولم تتلف، إنما تلف مال المستأجر فيها، فصار كدار استأجرها ليقصر فيها ثيابا فتلفت الثياب فيها. فهذا الكلام يقتضي أن المؤجر لا يضمن شيئًا من زرع المستأجر، كما يضمن البائع بزرع المشتري، ولذلك ذكر ذلك في باب جوائح الأعيان، وعلل ذلك بأن التالف إنما هو عين ملك المستأجر لا المنفعة. وهذا حسن في نفي ضمان نفس الزرع. ويظهر ذلك فيما إذا تلف الزرع بعد كماله. وقد بينا فيما تقدم أن نفس المنفعة المعقود عليها تنقص وتتعطل بما يصيب الزرع من الآفة، فيحط من الأجرة بقدر ما نقص من المنفعة. فما نفي فيه الشيخ الخلاف ضمان نقص العين، ولم يذكر ضمان نقص المنفعة هنا، لكن ذكره في كتاب الإجارة. والموضع موضع اشتباه، وفي كلام أكثر العلماء فيها إجمال. وبما حققناه يتضح الصواب. والله ـ سبحانه وتعالى ـ أعلم. / والرجل يستأجر أرضا أو دارًا أو حانوتًا أو غير ذلك من ناظر وقف، أو ولي يتيم، ثم كان غبطة وزيادة لليتيم، والوقف. فهل يفسخ حكم الإجارة؟ ويقبل زيادة ما جري؟ فأجاب: أما إجارة أرض تصلح للزراعة فجائز، سواء كان قد شملها الري، أو لم يكن يشملها، إذا كانت الأرض مما جرت العادة بأن الري يشملها. كما تكري الأرض التي جرت عادتها أن تشرب من الماء قبل أن ينزل المطر عليها، وهذا مذهب أئمة المسلمين؛ كمالك، وأبي حنيفة، والإمام أحمد. وهو ـ أيضا ـ مذهب الشافعي الصحيح في مذهبه. /ولكن بعض أصحابه غلط في معرفة مذهبه، فلم يفرق بين الأرض التي ينالها الماء في أغلب الأوقات. والأرض التي لا ينالها الماء إلا نادرًا؛ كالأراضي التي تشرب في غير الأوقات. ثم هذه الأرض التي صحت إجارتها إن شملها الري، وأمكن الزرع المعتاد وجبت الأجرة. وإن لم يرو منها لم يجب على المستأجر شيء من الأجرة. وإن روي بعضها دون بعض وجب من الأجرة بقدر ما روي. ومن ألزم المستأجر بالإجارة، وطالبه بالأجرة إذا لم ترو الأرض، فقد خالف إجماع المسلمين. فإذا كان كذلك، فقول القائل: أجرتكها مقيلا ومراحا لا حاجة اليه، ولا فائدة فيه. وإنما فعل ذلك من ظن أنه لا تجوز الإجارة قبل ري الأرض، والذي فعلوه من إجارتها مقيلا ومراحا باطل بإجماع المسلمين لوجهين: أحدهما: أن هذه الأرض لا تصلح مقيلا ومراحا؛ فإن الماشية لا تروح وتقيل إلا بأرض تقيم بها في العادة؛ مثل أن تكون بقرب ما ترعاه، وتشرب منه، فأما التي ليس فيها ماء، ولا زرع، ولا عمارة، فلا تصلح مقيلا ومراحا، وإجارة العين بمنفعة ليست فيها إجارة باطلة. الثاني: أن هذه المنفعة إن كانت حاصلة، فهي منفعة غير متقومة في /مثل هذه الأرض، بل البرية كلها تشارك هذه الأرض، في كونها مقيلا ومراحا، والمنفعة التي لا قيمة لها في العادة، بمنزلة الأعيان التي لا قيمة لها، لا يصح أن يرد على هذه عقد إجارة، ولا على هذه عقد بيع بالاتفاق؛ كالاستظلال، والاستضاءة من بعد. وأما إجارة الأرض لينتفع بذلك انتفاع مثله بمثلها فجائز. وأما قوله: استأجر مقيلا ومراحا، وللزراعة إن أمكن أيضا؛ لينتفع بذلك انتفاع مثله بمثلها فالإجارة صحيحة، لكن قوله: مقيلا ومراحا كلام لغو لا فائدة فيه، وإذا لم يمكن الانتفاع بها سقطت الأجرة. وإن أمكن الانتفاع ببعضها وجبت الأجرة بقدر ذلك. وأما إذا تنازعا في إمكان الانتفاع، رجع في ذلك إلى غيرهما؛ فإن الناس يعلمون: هل رويت؟ أم لم ترو؟
فأجاب: إذا لم يرها ولم توصف له لم تصح الإجارة عند جمهور العلماء، ومن صححها أثبت لهم الخيار خيار الرؤية، وإن وصفت بوصف بأنها تروي كل عام، فلم ترو، فلهم فسخ الإجارة إذا وجدت بخلاف الصفة والشرط الذي شرط لهم. ولو أجرهم إجارة مطلقة فروي بعضها، ولم يرو بعض، لم تجب عليهم الأجرة ما لم يرو. ولو ذكر في الإجارة أنها مقيل ومراح، فإن إجارة هذه الأرض التي لا تروي للمقيل والمراح باطلة بين العلماء؛ لأن ما لا يروي لا ينتفع به مقيلا ومراحا، فإنها كسائر البرية التي لا زرع فيها، ولا ماء، ومثل هذه المنفعة لا تتقوم، ولا قدر لها لو كانت موجودة، فكيف وهي منتفية؟! والإجارة إنما تصح على منفعة مقصودة. وإذا كان ما لا نفع فيه، أو لا قيمة لنفعه لم يصح، فكذلك إجارة ما لا نفع فيه لما استؤجر له، ولا قيمة لتلك المنفعة. وهذا على قول من صحح الحيل، وليس يبطلها؛ فإن الأمر عنده ظاهر، فإنه علم أن المقصود بالعقد إنما هو الانتفاع بالزرع، وإظهار ما سوي ذلك كذب وخداع. وإجارة الأرض التي تروي غالبًا قبل الري جائزة عند الأئمة، وأما ما تروي أحيانًا ففيه نزاع. / فأجاب: إجارة الأرض المعينة جائزة، وإن لم يعلم ذرعاتها، كما يجوز بيعها، وبيع سائر المعينات، وإن لم يعلم مقدارها، فإن بيع العين جزافًا جائز بالسنة والإجماع. كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أجاز بيع الشرك في الأرض الربعة، والحائط، وبيع الثمر على الشجر بعد بدو صلاحه. وأقرهم على بيع الطعام جزافا. ثم إذا تعطلت منفعتها بغرق أو غيره، لم يجب عليه أجرة ما تعطل من المنفعة، باتفاق المسلمين. / فأجاب: الحمد لله. له أن يفسخ الإجارة، وله أن يحط من الأجرة بقدر ما نقص من المنفعة، ومن حكم بلزوم العقد وجميع الأجرة فقد حكم بخلاف الإجماع، ولا ينفذ حكمه.
فأجاب: نعم يسقط عنه من الأجرة بقدر ما تعطل من المنفعة المستحقة بالعقد. / فأجاب: هذه المعاملات الواقعة على البساتين المسماة بالضمان، سواء كانت قبل ظهور الثمرة، وقبل بدو صلاحها، أو بعدهما، أو بينهما. وسواء سميت ضمانًا، أو سميت ـ للتحيل ـ مساقاة، وإجارة؛ فإنه إذا تلف الثمر بجراد أو نحوه من الآفات السماوية كنهب الجيوش، وغير ذلك، فإنه يجب وضع الجائحة عن المستأجر المشتري، فيحط عنه من العوض بقدر ما تلف من العوض، سواء كان العقد فاسدًا أو صحيحا. وعلى كلا الصورتين نص رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصحيح من حديث أنس، وجابر. وهو قول جماهير العلماء في العقد الصحيح. فكيف في العقد الفاسد، أو المختلف فيه، أو المتحيل على صحته؟! والله أعلم. / فأجاب: إن كانت التقاوي من الملاك بذرًا في الأرض في زراعة صحيحة، أو فاسدة، فلا ضمان على الفلاحين، إذا فعلوا بها ما أمروا به، وإن سميت مع ذلك باسم القرض الفاسد؛ فإن المقصود بها مزارعة، وإذا بذر المالك فيها بذرًا يرجع به. وأما إن كانت قرضًا مطلقا في الذمة يتصرف فيه المقترض بأشياء، فهي في ذمة المقترض، وإن تلف زرعه والدراهم. / فأجاب: الحمد لله، إذا استأجر ما تكون منفعة إيجاره للناس. مثل الحمام، والفـندق، والقيسارية، ونحو ذلك، فنقصت المنفعة المعروفة؛ مثل أن ينتقل جيران المكان، ويقل الزبون لخوف أو خراب، أو تحويل ذي سلطان لهم، ونحو ذلك فإنه يحط عن المستأجر من الأجرة بقدر ما نقص من المنفعة المعروفة؛ سواء رضي الناظر، وأهل الوقف، أو سخطوا. ولا يرجع على المستأجر بما وضع عنه، إذا لم توضع إلا قدر ما نقص من المنفعة المعروفة. والله أعلم. / فأجاب: ما لم يشمله الري من الأرض، فإنه يسقط بقدره من الأجرة باتفاق العلماء. وإن قال في الإجارة: مقيلا ومراحا، أو أطلق، ولو لم يرو شيء من الأرض، لم يجب عليه شيء من الأجرة باتفاق العلماء. وإن قال في الإجارة. مقيلا ومراحا. والله أعلم. / فأجاب: نعم، إذا كان قد زاد في الاستعمال على ما أذن له صاحبها فهو ظالم، ضامن ما يتلف بعدوانه، فما نقص من قيمة الفرس بهذا الظلم كان ضامنًا له باتفاق الأئمة. / فأجاب: إذا أعار نصيب الشريك بغير إذنه وتلفت الفرس، كان له مطالبة المعير المعتدي بقيمة نصيبه، وله مطالبة المستعير أيضا. والله أعلم.
فأجاب: إن كانت فرطت في حفظها لزمها غرامتها باتفاق العلماء. وإن لم تفرط ففي ذلك نزاع مشهور بينهم. ففي مذهب أبي حنيفة لا ضمان عليها، وفي مذهب الشافعي وأحمد عليها الضمان، وعند مالك إذا تلفت بسبب معلوم فلا ضمان عليها، وإذا ادعت التلف بسبب خفي لم يقبل منها. والله أعلم. / فأجاب: هذه المسألة فيها قولان للعلماء: أحدهما: لا ضمان عليه إذا تلفت بغير تفريطه، ولا عدوانه. وهذا مذهب أبي حنيفة، ومالك،وبعض أصحاب الإمام أحمد. والقول الثاني: عليه الضمان، وهو مذهب الشافعي، وأحمد. والله أعلم.
/فأجاب: إذا كان الأمر على ما ذكر، من أنه يعتقد صدق نفسه، فما حلف عليه لم يقع به الطلاق، وإن تبين له فيما بعد أنه أخطأ، والله أعلم، والحمد لله رب العالمين.
فأجاب: إذا كان الرسول لم يكذب، ولم يتعد، فلا ضمان عليه، بل الضمان على المستعير، إن كان فرط أو اعتدي، باتفاق العلماء، وإلا ففي ضمانه نزاع. والله أعلم. / فأجاب: نعم يباح اللقاط، كما كان يباح لو حصدها المالك، كما يباح رعي الكلأ في الأرض المغصوبة، نص الإمام أحمد على هذه المسألة الثانية؛ وذلك لأن ما يباح من الكلأ واللقاط لا يختلف بالغصب وعدمه، ولا يمنعه حق المالك.
فأجاب: ليس لأحد أن يستولي عليه بغير حق، بل له أن يطالب /من زرع في ملكه بأجرة المثل، وله أن يأخذ الزرع إذا كان قائما، ويعطيه نفقته. والله أعلم.
فأجاب: أما مقدار البذر فيتصدق به بلا ريب، وأما الزيادة ففيها نزاع. وأعدل الأقوال أن يجعل ذلك مزارعة، فيأخذ نصيبه، ونصيب صاحب البذر يتصدق به عنه. والله أعلم.
/فأجاب: الحمد لله رب العالمين، بل للمشتري أن يرجع على الغاصب بالثمن الذي قبضه منه، سواء كان عالمًا بالغصب أو لم يكن عالمًا؛ فإن الثمن قبضه بغير حق، ولو كان برضاه. فإنهما لو تبايعا ما لا يحل بيعه؛ من خمر أو خنزير برضاهما لوجب أن يرد المبيع، فيتلف الخمر والخنزير، ويرد على المشتري الثمن فكيف إذا باعه مال الغير؟ وبأي وجه بقي الثمن في يد الغاصب فلا حق له فيه، وإنما هو ملك المشتري. والله أعلم.
فأجاب: الحمد لله، إذا غرس نخلة تملكها في أرض الغير ابنه، لم يكن لورثة ابنه فيها حق، بل الحق فيها له، ولأهل الأرض، فالنخلة له وعليه أجرة الأرض لأهلها إذا أبقوها في أرضهم. والله أعلم. / فأجاب: نتاج الدابة لمالكها، ولا يحل للغاصب، لكن إذا كان النتاج مستولدا من عمل المستولي. فمن الناس من يجعل النماء بين المالك والعامل كالمضاربة، ونحوها. والله أعلم.
فأجاب: إذا أنزي على بهائمه فحل غيره فالنتاج له، ولكن إذا كان ظالما في الإنزاء؛ بحيث يضر بالفحل المنزي فعليه ضمان ما نقص لصاحبه، فإن لم يعرف صاحبه تصدق بقيمة نقصه. وأما إن كان لا يضره فلا قيمة له، فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهي عن عَسْب الفَحْل. والله أعلم. / فأجاب: إذا كان اشتراها بثمن بعضه له، وبعضه مغصوب، فنصفها ملكه، والنصف الآخر لا يستحقه، بل يدفعه إلى صاحبه إن أمكن، وإلا تصدق به عنه، فإن حصل من ذلك نماء كان حكمه حكم الأصل؛ نصفه له ونصفه للجهة الأخري. والله أعلم.
فأجاب: إذا كانت طلبت على لسان سيدتها ولم تكن أذنت لها كانت الجارية غاصبة، قابضة لذلك بغير حق، فإذا تلف في يدها فضمانه في رقبة الجارية، وسيدتها بالخيار بين أن تفتديها فتؤدي قيمة ما أخذته وبين أن تسلمها لتباع، ويؤخذ من ثمنها ذلك. والله أعلم. / فأجاب: الحمد لله رب العالمين، أما المال المغصوب إذا عمل فيه الغاصب حتي حصل منه نماء؛ ففيه أقوال للعلماء: هل النماء للمالك /وحده؟ أو يتصدقان به؟ أو يكون بينهما كما يكون بينهما إذا عمل فيه بطريق المضاربة، والمساقاة، والمزارعة، وكما يدفع الحيوان إلى من يعمل عليه بجزء من دره، ونسله، أو يكون للعامل أجرة مثله إن كانت عادتهم جارية بمثل ذلك، كما فعل عمر بن الخطاب لما أقرض أبو موسي الأشعري ابنيه من مال الفيء مائتي ألف درهم، وخصهما بها دون سائر المسلمين، ورأي عمر بن الخطاب أن ذلك محاباة لهما لا تجوز، وكان المال قد ربح ربحًا كثيرا، بلغ به المال ثمانمائة ألف درهم، فأمرهما أن يدفعا المال وربحه إلى بيت المال، وأنه لا شيء لهما من الربح، لكونهما قبضا المال بغير حق. فقال له ابنه عبد الله: إن هذا لا يحل لك؛ فإن المال لو خسر وتلف كان ذلك من ضماننا، فلماذا تجعل علينا الضمان، ولا تجعل لنا الربح؟ فتوقف عمر. فقال له بعض الصحابة: نجعله مضاربة بينهم وبين المسلمين: لهما نصف الربح، وللمسلمين نصف الربح، فعمل عمر بذلك. وهذا مما اعتمد عليه الفقهاء في المضاربة وهو الذي استقر عليه قضاء عمر بن الخطاب، ووافقه عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو العدل؛ فإن النماء حصل بمال هذا، وعمل هذا، فلا يختص أحدهما بالربح، ولا تجب عليهم الصدقة بالنماء؛ فإن الحق لهما لا يعدوهما، بل يجعل الربح بينهما، كما لو كانا مشتركين شركة مضاربة. /وهكذا الذي يعمل على ماشية غيره أو بستانه أو أرضه، حتي يحصل بمزروع أو در، أو نسل، لكن من العلماء من لا يجوز العمل هنا بجزء من النماء، وإنما تجوز عنده الإجارة. وأصح قولي العلماء: أنها تجوز المساقاة، وتجوز المزارعة، سواء كان البذر من المالك، أو من العامل، أو منهما، كما عامل النبي صلى الله عليه وسلم أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر وزرع، على أن يعمروها من أموالهم. رواه البخاري في صحيحه. وكذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كسعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن مسعود، وغيرهما كانوا يدفعون إلى من يزرعها ليبذر من عنده، والزرع بينهما، وكان عامة بيوت المهاجرين، والأنصار مزارعون. والنبي صلى الله عليه وسلم نهي عن المخابرة التي كانوا يفعلونها، وهو أنهم كانوا يشترطون لرب الأرض زرع بقعة بعينها، كما ثبت ذلك في الصحيحين، وهذا الذي نهي عنه النبي صلى الله عليه وسلم محرم باتفاق العلماء، كما لو شرط في المضاربة أن يكون لأحدهما دراهم مقدرة. وإنما العدل أن يشتركا فيما يرزقه الله من النماء؛ لهذا جزء شائع ولهذا جزء شائع، فيشتركان في المغنم، ويشتركان في المغرم، فإن لم يحصل شيء ذهب نفع مال هذا ونفع بدن هذا.
|